سورة الإنسان - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإنسان)


        


{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)}
قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي لا يخلفون إذا نذروا.
وقال معمر عن قتادة: بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغيره من الواجبات.
وقال مجاهد وعكرمة: يوفون إذا نذروا في حق الله جل ثناؤه.
وقال الفراء والجرجاني: وفي الكلام إضمار، أي كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. والعرب قد تزيد مرة كانَ وتحذف أخرى. والنذر: حقيقته ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله. وإن شئت قلت في حده: النذر: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه.
وقال الكلبي: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} أي يتممون العهود والمعنى واحد، وقد قال الله تعالى:
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] أي أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم بإحرامهم بالحج. وهذا يقوي قول قتادة. وأن النذر يندرج فيه ما التزمه المرء بإيمانه من امتثال أمر الله، قاله القشيري.
وروى أشهب عن مالك أنه قال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} هو نذر العتق والصيام والصلاة.
وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال مالك. {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال: النذر: هو اليمين. قوله تعالى: {وَيَخافُونَ} أي يحذرون يَوْماً أي يوم القيامة. كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي عاليا داهيا فاشيا وهو في اللغة ممتدا، والعرب تقول: استطار الصدع في القارورة والزجاجة واستطال: إذا امتد، قال الأعشى:
وبانت وقد أسأرت في ألفوا *** د صدعا على نأيها مستطيرا
ويقال: استطار الحريق: إذا انتشر. واستطار الفجر إذا انتشر الضوء.
وقال حسان:
وهان على سراة بني لؤي *** حريق بالبويرة مستطير
وكان قتادة يقول: استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملا السموات والأرض.
وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفي الأرض نسفت الجبال وغارت المياه. قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ} قال ابن عباس ومجاهد: على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له.
وقال الداراني: على حب الله.
وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام. وكان الربيع بن خيثم إذا جاءه السائل قال: أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. {مِسْكِيناً} أي ذا مسكنة.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو الطواف يسألك مالك وَيَتِيماً أي من يتامى المسلمين.
وروى منصور عن الحسن: أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر، فدعا ذات يوم بطعامه، وطلب اليتيم فلم يجده، وجاءه بعد ما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام، فدعا له بسويق وعسل، فقال: دونك هذا، فوالله ما غبنت، قال الحسن وابن عمر: والله ما غبن. وَأَسِيراً أي الذي يؤسر فيحبس. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم. وقاله قتادة.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الأسير هو المحبوس. وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء: هو المسلم يحبس بحق. وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس. قال قتادة: لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم، وأن أسراهم يومئذ لأهل الشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه.
وقال عكرمة: الأسير العبد.
وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، يدل عليه قوله عليه السلام: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم» أي أسيرات.
وقال أبو سعيد الخدري: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً فقال: «المسكين الفقير، واليتيم الذي لا أب له، والأسير المملوك والمسجون» ذكره الثعلبي.
وقيل: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات، وإطعام الأسير آية السيف، قاله سعيد بن جبير.
وقال غيره: بل هو ثابت الحكم، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الامام. الماوردي: ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل، لأنه في أسر خبله وجنونه، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الامام، وهذا بر وإحسان. وعن عطاء قال: الأسير من أهل القبلة وغيرهم. قلت: وكان هذا القول عام يجمع جميع الأقوال، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى، غير أنه من صدقة التطوع، فأما المفروضة فلا. والله أعلم. ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير واشتقاق ذلك من اللغة في البقرة مستوفى والحمد لله.
قوله تعالى: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي يقولون بألسنتهم للمسكين واليتيم والأسير إِنَّما نُطْعِمُكُمْ في الله جل ثناؤه فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه. لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة. وَلا شُكُوراً أي ولا أن تثنوا علينا بذلك، قال ابن عباس: كذلك كانت نياتهم في الدنيا حين أطعموا. وعن سالم عن مجاهد قال: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله جل ثناؤه منهم فأثنى به عليهم، ليرغب في ذلك راغب. وقاله سعيد بن جبير حكاه عنه القشيري.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به.
وقيل: نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر وهم سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وأبو عبيدة رضي الله عنهم، ذكره الماوردي.
وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا.
وقال أبو حمزة الثمالي: بلغني أن رجلا قال يا رسول الله أطعمني فإني والله مجهود، فقال: «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى مع امرأته فسأله، وأخبره بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتيم فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: ما عندي ما أطعمك ولكن اطلب فاستطعم ذلك الأنصاري فقالت المرأة: أطعمه واسقه، فأطعمه. ثم أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسير فقال: يا رسول الله! أطعمني فإني مجهود. فقال: والله ما معي ما أطعمك ولكن اطلب فجاء الأنصاري فطلب، فقالت المرأة: أطعمه واسقه. فنزلت: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}» ذكره الثعلبي.
وقال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لهما اسمها فضة. قلت: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، ومن فعل فعلا حسنا، فهي عامة. وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت، رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} قال: مرض الحسن والحسين فعادهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن- ورواه جابر الجعفي عن قنبر مولى علي قال: مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا أبا الحسن- رجع الحديث إلى حديث ليث بن أبي سليم- لو نذرت عن ولديك شيئا، وكل نذر ليس له وفاء فليس بشيء. فقال رضي الله عنه: إن برأ ولداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت جارية لهم نوبية: إن برأ سيداي صمت لله ثلاثة أيام شكرا. وقالت فاطمة مثل ذلك.
وفي حديث الجعفي فقال الحسن والحسين: علينا مثل ذلك فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي إلى شمعون بن حاريا الخيبري، وكان يهوديا، فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، فجاء به، فوضعه ناحية البيت، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلي علي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه.
وفي حديث الجعفي: فقامت الجارية إلى صاع من شعير فخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، فلما مضى صيامهم الأول وضع بين أيديهم الخبز والملح الجريش، إذ أتاهم مسكين، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد- في حديث الجعفي- أنا مسكين من مساكين أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا والله جائع، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي رضي الله عنه، فأنشأ يقول:
فاطم ذات الفضل اليقين *** يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين *** قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين *** يشكو إلينا جائع حزين
كل امرئ بكسبه رهين *** وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين *** حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين *** تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين *** من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين ***
فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أمرك عندي يا ابن عم طاعة *** ما بي من لؤم ولا وضاعة
غديت في الخبز له صناعة *** أطعمه ولا أبالي الساعة
أرجو إذا أشبعت ذا المجاعة *** أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الجنة لي شفاعة ***
فأطعموه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الثاني قامت إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلي علي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم، فوقف بالباب يتيم فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين أستشهد والدي يوم العقبة. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم بنت السيد الكريم *** بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم *** من يرحم اليوم يكن رحيم
ويدخل الجنة أي سليم *** قد حرم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم *** يزل في النار إلى الجحيم
شرابه الصديد والحميم ***
فأنشأت فاطمة رضي الله عنها تقول:
أطعمه اليوم ولا أبالي *** وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهم أشبالي *** أصغرهم يقتل في القتال
بكر بلا يقتل باغتيال *** يا ويل للقاتل مع وبال
تهوي به النار إلى سفال *** وفي يديه الغل والاغلال
كبوله زادت على الأكبال ***
فأطعموه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما كانت في اليوم الثالث قامت إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، وصلي علي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين أيديهم، إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير محمد. فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يا بنت النبي أحمد *** بنت نبي سيد مسود
وسماه الله فهو محمد *** قد زانه الله بحسن أغيد
هذا أسير للنبي المهتد *** مثقل في غله مقيد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد *** من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد *** ما يزرع الزارع سوف يحصد
أعطيه لا لا تجعليه أقعد ***
فأنشأت فاطمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لم يبق مما جاء غير صاع *** قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله هما جياع *** يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع *** يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين شديد الباع *** وما على رأسي من قناع
إلا قناعا نسجه أنساع ***
فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح، فلما أن كان في اليوم الرابع، وقد قضى الله النذر أخذ بيده اليمنى الحسن، وبيده اليسرى الحسين، وأقبل نحو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما أبصرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم انطلق بنا إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها، وقد لصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها من شدة الجوع، فلما رآها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرف المجاعة في وجهها بكى وقال: وا غوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا فهبط جبريل عليه السلام وقال: السلام عليك، ربك يقرئك السلام يا محمد، خذه هنيئا في أهل بيتك. قال: وما آخذ يا جبريل فأقرأه: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً}» قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول: فهذا حديث مزوق مزيف، قد تطرف فيه صاحبه حتى تشبه على المستمعين، فالجاهل بهذا الحديث يعض شفتيه تلهفا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يعلم أن صاحب هذا الفعل مذموم، وقد قال الله تعالى في تنزيله: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وهو الفضل الذي يفضل عن نفسك وعيالك، وجرت الاخبار عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواترة بأن: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى». «وابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وافترض الله على الأزواج نفقة أهاليهم وأولادهم.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» أفيحسب عاقل أن عليا جهل هذا الامر حتى أجهد صبيانا صغارا من أبناء خمس أو ست على جوع ثلاثة أيام ولياليهن؟ حتى تضوروا من الجوع، وغارت العيون منهم، لخلاء أجوافهم، حتى أبكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بهم من الجهد. هب أنه آثر على نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل أهله على ذلك؟! وهب أن أهله سمحت بذلك لعلي فهل جاز له أن يحمل أطفاله على جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟! ما يروج مثل هذا إلا على حمقى جهال، أبى الله لقلوب متنبهة أن تظن بعلي مثل هذا. وليت شعري من حفظ هذه الأبيات كل ليلة عن علي وفاطمة، وإجابة كل واحد منهما صاحبه، حتى أداه إلى هؤلاء الرواة؟ فهذا وأشباهه من أحاديث أهل السجون فيما أرى. بلغني أن قوما يخلدون في السجون فيبقون بلا حيلة، فيكتبون أحاديث في السمر وأشباهه، ومثل هذه الأحاديث مفتعلة، فإذا صارت إلى الجهابذة رموا بها وزيفوها، وما من شيء إلا له آفة ومكيدة، وآفة الدين وكيدة أكثر.


{إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)}
قوله تعالى: {إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} عَبُوساً من صفة اليوم، أي يوما تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته، فالمعنى نخاف يوما ذا عبوس.
وقال ابن عباس يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران. وعن ابن عباس: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل، قال الشاعر:
شديدا عبوسا قمطريرا ***
وقيل: القمطرير الشديد، تقول العرب: يوم قمطرير وقماطر وعصيب بمعنى، وأنشد الفراء:
بني عمنا هل تذكرون بلاءنا *** عليكم إذا ما كان يوم قماطر
بضم القاف. واقمطر إذا اشتد.
وقال الأخفش: القمطرير: أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، قال الشاعر:
ففروا إذا ما الحرب ثار غبارها *** ولج بها اليوم العبوس القماطر
وقال الكسائي: يقال اقمطر اليوم وازمهر اقمطرارا وازمهرارا، وهو القمطرير والزمهرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا، قال الهذلي:
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة *** ومن يلق منا ذلك اليوم يهرب
وقال مجاهد: إن العبوس بالشفتين، والقمطرير بالجبهة والحاجبين، فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم، وأنشد ابن الاعرابي:
يغدو على الصيد يعود منكسر *** ويقمطر ساعة ويكفهر
وقال أبو عبيدة: يقال رجل قمطرير أي متقبض ما بين العينين.
وقال الزجاج: يقال أقمطرت الناقة: إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها، وزمت بأنفها، فاشتقه من القطر، وجعل الميم مزيدة. قال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم *** باسل الشر قمطرير الصباح
قوله تعالى: {فَوَقاهُمُ اللَّهُ} أي دفع عنهم {شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ} أي بأسه وشدته وعذابه {وَلَقَّاهُمْ} أي أتاهم وأعطاهم حين لقوه أي رأوه {نَضْرَةً} أي حسنا {وَسُرُوراً} أي حبورا. قال الحسن ومجاهد: {نَضْرَةً} في وجوههم {وَسُرُوراً} في قلوبهم.
وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها أنها البياض والنقاء، قاله الضحاك.
الثاني الحسن والبهاء، قاله ابن جبير.
الثالث أنها أثر النعمة، قاله ابن زيد.


{وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)}
قوله تعالى: {وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا} على الفقر.
وقال القرظي: على الصوم.
وقال عطاء: على الجوع ثلاثة أيام وهي أيام النذر.
وقيل: بصبرهم على طاعة الله، وصبرهم على معصية الله ومحارمه. وبِما: مصدرية، وهذا على أن الآية نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلا حسنا.
وروى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الصبر فقال: «الصبر أربعة: أولها الصبر عند الصدمة الأولى، والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب». {جَنَّةً وَحَرِيراً} أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. أي يسمى بحرير الدنيا وكذلك الذي في الآخرة وفيه ما شاء الله عز وجل من الفضل. وقد تقدم: أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإنما ألبسه من ألبسه في الجنة عوضا عن حبسهم أنفسهم في الدنيا عن الملابس التي حرم الله فيها. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيها} أي في الجنة، ونصب مُتَّكِئِينَ على الحال من الهاء والميم في جَزاهُمْ والعامل فيها جزى ولا يعمل فيها صَبَرُوا، لان الصبر إنما كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة.
وقال الفراء. وإن شئت جعلت مُتَّكِئِينَ تابعا، كأنه قال جزاهم جنة مُتَّكِئِينَ فِيها. {عَلَى الْأَرائِكِ} السرر في الحجال وقد تقدم. وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات: أحدها الأريكة لا تكون إلا في حجلة على سرير، ومنها السجل، وهو الدلو الممتلئ ماء، فإذا صفرت لم تسم سجلا، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملا، والكأس لا تسمى كأسا حتى تترع من الخمر. وكذلك الطبق الذي تهدى عليه الهدية مهدى، فإذا كان فارغا قيل طبق أو خوان، قال ذو الرمة:
خدود جفت في السير حتى كأنما *** يباشرن بالمعزاء مس الأرائك
أي الفرش على السرر. {لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً} أي لا يرون في الجنة شدة حر كحر الشمس وَلا زَمْهَرِيراً أي ولا بردا مفرطا، قال الأعشى:
منعمة طفلة كالمها *** ة لم تر شمسا ولا زمهريرا
وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشتكت النار إلى ربها عز وجل قالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصيف، فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما تجدون من الحر في الصيف من سمومها». وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن هواء الجنة سجسج: لا حر ولا برد» والسجسج: الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع.
وقال مقاتل بن حيان: هو شيء مثل رءوس الابر ينزل من السماء في غاية البرد.
وقال ابن مسعود: هو لون من العذاب، وهو البرد الشديد، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم بالنار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحدا. قال أبو النجم:
أو كنت ريحا كنت زمهريرا ***
وقال ثعلب: الزمهرير: القمر بلغة طيئ، قال شاعرهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر *** قطعتها والزمهرير ما زهر
ويروى: ما ظهر، أي لم يطلع القمر. فالمعنى لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ولا قمرا كقمر الدنيا، أي إنهم في ضياء مستديم، لا ليل فيه ولا نهار، لان ضوء النهار بالشمس، وضوء الليل بالقمر. وقد مضى هذا المعنى مجودا في سورة مريم عند قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62].
وقال ابن عباس: بينما أهل الجنة في الجنة إذ رأوا نورا ظنوه شمسا قد أشرقت بذلك النور الجنة، فيقولون: قال ربنا: {لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} فما هذا النور؟ فيقول لهم رضوان: ليست هذه شمس ولا قمر، ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ} وأنشد:
أنا مولى لفتى *** أنزل فيه هل أتى
ذاك علي المرتضى *** وابن عم المصطفى
قوله تعالى: {وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها} أي ظل الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار، فهي مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر ثم، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم. ويقال: إن ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مائة عام، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها دانت حتى يتناولها. وانتصبت دانِيَةً على الحال عطفا على مُتَّكِئِينَ كما تقول: في الدار عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال.
وقيل: انتصبت نعتا للجنة، أي وجزاهم جنة دانية، فهي صفة لموصوف محذوف.
وقيل: على موضع لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ويرون دانية، وقيل: على المدح أي دنت دانية. قاله الفراء. ظِلالُها الظلال مرفوعة بدانية، ولو قرئ برفع دانية على أن تكون الظلال مبتدأ ودانية الخبر لجاز، وتكون الجملة في موضع الحال من الهاء والميم في وَجَزاهُمْ وقد قرئ بذلك.
وفي قراءة عبد الله {ودانيا عليهم} لتقدم الفعل.
وفي حرف أبي {ودان} رفع على الاستئناف وَذُلِّلَتْ أي سخرت لهم قُطُوفُها أي ثمارها تَذْلِيلًا أي تسخيرا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع، لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، قاله قتادة.
وقال مجاهد: إن قام أحدا ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وعنه أيضا: أرض الجنة من ورق، وترابها الزعفران، وطيبها مسك أذفر، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، والثمر تحت ذلك كله، فمن أكل منها قائما لم تؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد، وتذليل القطوف تسهيل التناول. والقطوف: الثمار، الواحد قطف بكسر القاف، سمي به لأنه يقطف، كما سمي الجنى لأنه يجنى. تَذْلِيلًا تأكيد لما وصف به من الذل، كقوله: {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [الاسراء: 106] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [النساء: 164]. الماوردي: ويحتمل أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها، وتخلص لهم من نواها. قلت: وفي هذا بعد، فقد روى ابن المبارك، قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة: جذوعها زمرد أخضر، وكربها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، والين من الزبد ليس فيه عجم. قال أبو جعفر النحاس: ويقال المذلل الذي قد ذلله الماء أي أرواه. ويقال المذلل الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته، ويقال المذلل المسوي، لان أهل الحجاز يقولون: ذلل نخلك أي سوه، ويقال المذلل القريب المتناول، من قولهم: حائط ذليل أي قصير. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها ذكرها أهل العلم باللغة وقالوها في قول امرئ القيس:
وساق كأنبوب السقي المذلل ***

1 | 2 | 3 | 4